سورة هود - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


قلت: «ما صنعوا فيها»: الضمير يعود على الدنيا، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة، ويتعلق الظرف بحبط، أي: حبط في الآخرة ما صنعوا من الأعمال في الدنيا.
يقول الحق جل جلاله: {من كان يريد} بعمله {الحياةَ الدنيا وزينتَها}، فكان إحسانه وبره رياء وسمعَة، {نُوفّ إليهم أعمالَهم فيها} أي: نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا، من الصحة والرئاسة، وسعة الأرزاق، وينالُون ما قصدوا من حمد الناس، وإحسانهم وبرهم، {وهم فيها لا يُبخسون} لا يُنقصون شيئاً من أجورهم، فيحتمل: أن تكون الآية نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم؛ كما ورد في حديث الغازي والغني القارئ المرائين، وأنهم أول من تُسعر بهم جهنم. ويحتمل أن تكون نزلت في الكفار، وهو أليق بقوله: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النارُ}؛ لأنهم استوفواما تقضيه صور أعمالهم الحسنة، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. {وحَبِطََ ما صنعوا فيها} أي: في الدنيا فكل ما صنعوا في الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة؛ لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة في انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص، {وباطلٌ ما كانوا يعملون}؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.
الإشارة: في الحديث: «مَن كَان الدُّنيا هَمَّه: فَرَّق اللَّهُ عَليْهِ أَمْرَهُ، وجَعَل فَقْرَه بَينَ عَينَيه، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيا إلا ما قُسِمَ له. ومن كَانت الآخرةُ نيته: جمعَ اللَّهُ عَليه أَمْرَه، وجَعَل غَناهُ في قَلبِه، وأَتتهُ الدُّنيا وهِي صَاغِرة».
قلت: ومن كان الله همه كفاه هَم الدارين. فطالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن دار الفانية، وعلق قلبك بالدار الباقية، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية، ولا تكن ممن قصرَ همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له في الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص، وإياك وملاحظة الناس؛ فتبوأ بالخيبة والإفلاس، وبالله التوفيق.


قلت: {أفمن كان}: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمن كان يريد الدنيا وزينتها.
يقول الحق جل جلاله: {أفمن كان على بينةٍ}، طريقة واضحة {من ربه} وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، كمن ليس كذلك، ممن همه الدنيا؟! والمراد بالبينة: ما أدرك صحتَه العقلُ والذوقُ، أي: على برهان واضح من ربه، وهو الدليل العقلي؛ والأمر الجلي. أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما ياتيه ويذره، {ويتلُوه}؛ ويتبع ذلك البرهان الذي هو دليل العقل، {شاهدٌ منه} أي: من الله يشهد بصحته، وهو: القرآن، لأنه مصباح البصيرة والقلب؛ فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.
{ومن قبله} أي: من قبل القرآن، {كتابُ موسى} يعني: التوارة، فإنها أيضاً متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة: القرآن، والشاهد: جيريل عليه السلام، أو عَلِيٌّ كرم الله وجهه، أو الإنجيل، وهو حسن، لقوله: {ومن قبله كتابُ موسى}؛ فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية: وهنا اعتراض؛ وهو أن الضمير قي {قبله} عائداً على القرآن، فَلِمَ لَمْ يذكر الإنجيل وهو قبله وبينه وبين كتاب موسى؟ فالانفصال عنه: أنه خَصَّ التوراة بالذكر؛ لأن الملّتين متفقتان على أنها من عند الله، والإنجيل قد خالف فيها. فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} [الاحقاف: 30]. وقول النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاه واحدة»،. اهـ. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.
ثم وصف التوراة بقوله: {إماماً}. أي: مؤتماً به في الدين، لأجله، {ورحمةً} على المنزل عليهم. {أولئك} أي: من كان على بينة من ربه، {يُؤمنون به} أي: بالقرآن، {ومن يكفرْ به من الأحزاب}: كأهل مكة، ومن تحزب منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فالنارُ موعده} يدخلها لا محالة، {فلا تكُ في مريةٍ}؛ شك {منه} أي: من ذلك الموعد، أو القرآن، {إنه الحقُ من ربك} الثابت وقوعه، {ولكن أكثرَ الناس لا يؤمنون}؛ لقلة نظرهم، وإخلال فكرتهم.
الإشارة: لا يكون العبد على بينة من ربه حتى يتحقق فيه أمران، أولهما: التوبة النصوح، والثاني: الزهد التام. فإذا تحقق فيه الأمران كان بينة من ربه. وهي درجات؛ أولها: بينة ناشئة عن صحيح النظر ولاعتبار، وهي لقوم نظروا في الحجج والبراهين العقلية والدلائل السمعية، فأدركوا وجود الحق من طريق الإيمان بالغيب، وهم: أهل الدليل والبرهان. وثانيها: بينة ناشئة عن الرياضات والمجاهدات والاعتزال في الخلوات، فخرقت لهم العوائد الحسيات فرأوا كرامات وخوارق عادات، فأدركوا وجود الحق على وجه التحقيق والبيان، مع رقة الحجاب والوقوف بالباب.
وهم: العُبّاد، والزهاد، والصالحون من أهل الجد والاجتهاد. وثالثها: بينة ناشئة عن الذوق والوجدان، والمكاشفة والعيان، وهي لقوم دخلوا في تربية المشايخ، فتأدبوا وتهذبوا، وشربوا خمرة غيبتهم عن حسهم ورسمهم؛ فغابوا عن الأكوان بشهود المكون. فهم يستدلون بالله على غيره. قَدَّّسُوا الحق أن يحتاج إلى دليل، وهؤلاء هم الأفراد وخواص العباد، وإليهم أشار الشاعر بقوله:
الطُّرقُ شَتَّى وطَريقُ الحَقِّ مُقفِرَةٌ *** والسَّالكون طَريق الحقّ أَفرادُ
لا يُعرفُون ولا تُدرَى مَسالِكُهم *** فهم على مَهَلٍ يَمشُونَ قُصّادُ
والنَّاسُ في غفلَةٍ عَمَّا يَراد بِهِم *** فَجُلُّهم عَن سَبِيل الحَقِّ رُقَّادُ
وقال في القوت: {أفمن كان على بينة من ربه} أي: من شهد مقام الله عز وجل بالبيان، فقام له بشهادة الإيقان، فليس هذا كمن زُين له سُوء عمله، واتبع هواه، فآثره على طاعة مولاه. بل هذا قائم بشهادته، متبع لشهيده، مستقيم على محبة معبوده. اهـ. وقال الورتجبي: تقدير الآية على وجه الاستفهام: أفمن كان على بينة من ربه؛ كمن هو في الضلالة والجهالة؟ أفمن كان على معرفة من ربه، وولاية وسلامة وكرامة، وكل عارف إذا شاهد الحق سبحانه بقلبه وروحه، وعقله وسره، فأدرك فيض أنوار جماله، وقربه، يؤثر ذلك في هيكله حتى يبرز من وجهه نور الله الساطع، ويراه كل صاحب نظر، قال تعالى: {ويتلوه شاهد منه}، والبينة: بصيرة المعرفة، والشاهد: بروز نور المشاهدة منه. وأيضاً: البينة: كلام المعرفة. والشاهد: الكتاب والسنة. ثم قال عن الجنيد: البينة: حقيقة يؤيدها ظاهر العلم. اهـ.
والحاصل: أن البينة أمر باطني، وهي: المعرفة، إما بالبرهان، أو بالعيان، والشاهد الذي يتلو هو العلم الظاهر، فيتفق ما أدركه العقل أو الذوق مع ما أفاده النقل، فتتفق الحقيقة مع الشريعة. كلِّ في محله، الباطن منور بالحقائق، والظاهر مُؤيد بالشرائع. وهذا غاية المطلوب والمرغوب. رزقنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنِّه وكرمه.


قلت: {مثلاً}: تمييز.
يقول الحق جل جلاله: {ومن أظلمُ} أي: لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذباً}؛ بأن أسند إليه ما لم يقله، وكذب بما أنزله، أو نسب لله ما لا يليق بجلاله. {أولئك يُعرضون على ربهم} يوم القيامة، بأن يحسُبوا في الموفق، وتعرض عليهم أعمالهم على رؤوس الأشهاد، {ويقول الأشهادُ} من الملائكة والنبيين، أو كل من شهد الموقف: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} وهو تهويل عظيم لما يحيق بهم حينئذٍ، لظلمهم بالكذب على الله، ورد الناس عن طريق الله.
{الذين يصُدُّون عن سبيل الله}؛ عن دينه، {ويبغونها عِوَجاً}؛ يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب. أو يبغون أهلها أن يعرجوا عنها بالردة والكفر، أو يطلبون اعوجاجها بالطعن فيها. {وهم بالآخرة هم كافرون} أي: والحال أنهم كافرون بالبعث. وتكرير الضمير؛ لتأكيد كفرهم واختصاصهم به.
{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي: ما كانوا ليعجزوا الله في الدنيا أن يعاقبهم. بل هو قادر على ذلك، واخرهم ليوم الموعود، ليكون أشد وأدوم. {وما كان لهم من دون الله من أولياءَ} يمنعونهم من العقاب، {يضاعف لهم العذاب} بسبب ما اتصفوا به، كما ذكره بقوله: {ما كانوا يستطيعون السمعَ وما كانوا يبصرون}؛ لتصاممهم عن الحق، وبغضهم أهله. {أولئك الذين خسروا أنفسَهم} حين اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله، {وضل عنهم ما كانوا يفترون} من أن الأصنام تشفع لهم، أو خسروا بما بدلوا وضاع عنهم ما أملوا، فلم يبق لهم سوى الحسرة والندامة. {لا جرم} لا شك، أو لا بد {أنهم في الآخرة هم الأخسرون}: فلا أحد أكثر خسراناً منهم؛ حيث حرموا النعيم المخلد، واستبدلوا بالعذاب المؤبد.
ثم ذكر ضدهم فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتُوا} أي: اطمأنوا أو خشعوا، أو تابوا {إلى ربهم أولئك اصحابُ الجنة هم فيها خالدون}؛ دائمون.
{مَثَلُ الفريقين} المتقدمين؛ فريق الكافر وفريق المؤمن: {كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع}، فمثل الكافر كمن جمع بين العمى والصمم، ومثل المؤمن كمن جمع بين السمع والبصر. فالواو لعطف الصفات، ويجوز أن يكون شبه الكافر بمن هو أعمى فقط، وبمن هو أصم فقط والمؤمن بضدهما، فهو تمثيل للكافرين بمثالين، قاله ابن جزي. وقال البيضاوي: يجوز أن يراد به تشبيه الكافر بالأعمى؛ لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصاممه عن استماع كلام الله، وتأبيه عن تدبره معانيه. أو تشبيه المؤمن بالسميع والبصير؛ لأن أمره بالضد، فيكون كل منهما مشّبهاً باثنين باعتبار وصفين. أو تشبيه الكافر بالجامع بين العمى والصمم، والمؤمن بالجامع بين ضديهما، والعاطف لعطف الصفة على الصفة، كقوله: فالأدب الصَّابُح فالغانم، فهذا من بيان اللف والطباق. اهـ. {هل يستويان}: هل يستوي الفريقان؟ {مثلاً}؛ أي: جهة التمثيل، بل لا استواء بينهما، {أفلا تذكرون}؛ تتعظون بضرب الأمثال فترجعون عن غيكم.
الإشارة: كل من ترامى على مراتب الرجال، أو ادعى مقاماً من المقامات وهو لم يدركه، يريد بذلك إمالة وجوه الناس إليه، يُفضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ويقال له: {هؤلاء الذين كَذَبوا على ربهم...} الآية. فكل آية في الكفار تجر ذيلها على عُصاة المؤمنين. وقد تقدم أمارات من كان على بينة من ربه، فمن ادعى مقاماً من تلك المقامات وهو يعلم أنه لم يصله نادى عليه الآية.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8